"خلي جماعة حماس يصورونا..."
كانت هذه الفلتة اللسانية فتحاً من عند الله عز وجل ونفحةً من نفحات تدبيره. حدث ذلك حين سمع الملايين من مشاهدي الجزيرة عبارة واضحة بصوت واضح لم يظهر صاحبه؛ وإن كان عرف من نبرة الصوت أنه كان يضحك منتشياً وهو يقول: "خلي جماعة حماس يصورنا...". قال ذلك حينما كان الدم يوشك أن يتفجر من خدود محمود عباس المتوردة من الضحك وإنفراج الأسارير أثناء مصافحة حميمة مع "إيهود أولمرت" عقب خطابه في "أنابوليس". لا نعرف من قال العبارة على وجد التحديد؛ فقد يكون إعلامياً فتحوي الهوى ممن تواجدوا في المكان؛ وقد يكون أحد أعضاء وفد فتح - ولا أقول وفد فلسطين - في قاعة المؤتمر؛ لكن أياً كان هذا الفتحوي الذي غفل عن الميكروفون ونطق بما في صميم فؤاده وحقيقة معتقده من "رؤية" سياسية فإنه قدَّم لنا ولفلسطين وللجمهور خدمةً عظيمة؛ وكشف حقيقةً لا زالت فتح تنفق الأموال الطائلة لإخفائها والتعمية عليها. لقد نطق هذا الفتحوي بفصل خطاب فتح: فتح الخائنة التي تبتذل وتمارس العهر السياسي ولا تنال ولا حتى شرف إنكسار المسرف على نفسه؛ بل هي تتبجح بالمعصية وتكابر بها وتكايد حماس بأنها تصافح يهود بحرارة! هذه الفلتة لخَّصت صورة الحركة التي لطالما مارست التلاعب والخداع لحماية خيانتها وفساد قادتها؛ وتسترت بمفردات معومة هلامية مثل كلمة "حماية المشروع الوطني" في مرات؛ واختبأت خلف الأكاذيب مرات أخرى - آخر ما شاهده الكاتب من ذلك كانت ألاعيب وأحابيل أحد أغيلمة فتح في برنامج الإتجاه المعاكس يوم انعقاد المؤتمر؛ لكن لندع عبد عبد السيد في هذه الليلة وحسبنا الاشتغال بالعبد وسيده! - فجاءت زلة اللسان هذه بفضل الله لتصفع كل من كان في قلبه مثقال ذرة من شك بخصوص احتمالية أن يكون بعض الخير قد تسرب لفتح من بين يديها أو من خلفها!
إن من واجبي أن أوجه الشكر للفاجر المنتشي لأسباب ثلاثة: السبب الأول اتضح أعلاه. أما السبب الثاني فلأنه قدَّم لحماس دعاية جماهيرية ما كانت تحلم بها (تخيلوا معي حجم ما كان سيستفيده المؤمنون المستضعفون لو أن أبا جهل صارح نفسه في ليلةٍ ليلاء بأنه مجرم وفاتك خليع نشر الفساد والعربدة في مكة؛ وكانت هناك للجزيرة كاميرا تصور وتنقل!). أما السبب الثالث فلأنه قدَّم لي مفتاحا لأكتب مقالاً عن مؤتمر أنابوليس؛ إذ كان من المعيب أن يمر المؤتمر دون أن أكتب فيه في جملة من كتبوا؛ وكان من الصعب حقاً - لولا لطيفة الإعتراف هذه - أن أجد ما أكتبه عن جنازةٍ حارةٍ مهيبةٍ اجتمعت فيها كل القوى الأرضية لتقديم واجب العزاء في كلبٍ ميِّتٍ أجرب مهتريء من التعفن!
لكن إن كان المجاهر بالمعصية القولية من خلف الكاميرا قد قدَّم مفتاحاً للحديث؛ فإن محمود عباس قدَّم سلسلة مفاتيح. الرجل لا يدع محلاً للشك في أن الصهينة هي خياره الوحيد؛ وأنه مُصِرٌ على أن ينسف حقوقنا نسفاً. انظر كيف تلطف ليهود بأعذب الكلام ولين القول وأغلظ أيمانه باسم الشيطان أنه سيحارب الإرهاب (أي المقاومة لمن لا يفهم أو بالأحرى "عامل حاله مش فاهم") لكن حين وصل لحماس تحدث عنها بضمير الغائب مطمئناً شعب غزة بأن الظلام لن يدوم! وحتى لا يسيء بعض دراويش السلام الظن في "المذموم" محمود عباس - الضحَّاك في وجه يهود! - فإننا نوضح أن المقصود بالظلام هنا هو انتصار حماس على أيتام دايتون؛ والرئيس لم يقصد أبداً لا الاحتلال ولا دبابات الصهاينة لا سمح الله!
لكن إن كان عباس مصراً على إلغاء حماس، فيشتمها ولا يذكرها، فإن الله أبى إلا أن تحضر حماس في أنابوليس رغم أنف الرئيس العاجز! فتحدَّث "أولمرت" في هجاء حماس - وأي فخرٍ أحسنُ من أن يهجوها عدوها! - وسمَّى صواريخها "القسام" وبكى حال أسيره عندها "شاليط"؛ مع أن زميله الضحَّاك لم يستطع أن يجد بين أسماء أحد عشر ألف أسيرٍ، لا امرأةً ولا طفلاً وشيخاً ولا برلمانياً - دعك من المقاومين فعباس يكره الإرهاب - يستحق أن يذكر اسمه بين يدي أحمق تكساس المطاع!
وكما حاول عباس أن "يعمل من البحر طحينة" بجملٍ انشائيةٍ وُضِعت للتغطية على التزامه المدرسي الإلزامي بخارطة الطريق التي تنص على حرب المجاهدين؛ فإن "نبيل عمرو" حاول في ضيافة الجزيرة أن يتذاكى هو الآخر؛ فأراد أن يوهمنا أنه وفتح كانوا يعرفون أن أنابوليس لن يحقق شيئاً؛ وأنهم اشتركوا في ذلك عامدين وعن سابق إصرار لحكمةٍ لم تنبغ إلا لأمثالهم ممن يرون أبعد من ظاهر الأمور! فظهر "عمرو" مثل الشيخ الأبله الذي نبهه طفلٌ صغير الى القملة على "قفاه" فرد الشيخ المحرج مصطنعاً الحكمة وفاراً للأمام قائلاً: "اخرس يا ولد؛ أنا حاططها هناك عمداً ولغرض لا تعلمه"!
فهل رأى أحدٌ منكم أو فَهِمَ من مؤتمر أنابوليس شيئاً أبعدَ من صورةِ فتح وهي تتقمل؟ وهل رأيتم عسكر عباس وهم يروِّعون المتظاهرين في الضفةِ ضرباً وشتماً وبالنيران الحية التي قتلت شهيد الرأي والثوابت هاشم البرادعي؟! نعم نفس عساكر الشلح والتعري كانوا اليوم أُسُوداً على شعبهم؛ ورقص الجنود تأسياً برب البيت الضارب على الطبلة!
وهل رأى أحدٌ في أنابوليس شيئاً ما سيفرقها عن خَضِّ الماءِ في مدريد وأوسلو وواي ريفر وأوسلو الثانية وكامب ديفيد وطابا وجينيف وشرم الشيخ ثم طابا مرة أخرى إلى آخر القائمة الطويلة من مراتع تجريب المجرب والتي تعجز عن حفظها وتثبيتها ذاكرةٌ حديدية؟!
لكن بقي مشهدٌ واحدٌ مهمٌ لم أعطه حقهُ بعد: فقد لاحظتُ بعين المشفقِ حجمَ العاطفةِ الكبيرةِ المتبديةِ في ثناءِ عباس على "الدكتور" رايس - هو قالها "الدكتور" تشبيها للفظ العربي بأصله الانجليزي؛ وليس لأن وزيرة الخارجية أخشن من الرجال كما قد يظن بعض الخبثاء- وبما أن للعرب في أنابوليس وفداً كبيراً يصلح لتشكيل "أتخنها" جاهة؛ فإنني اقترح أن نخطب بنت الحكومة الأمريكية لولدنا محمود ليكونَ ما بيننا وبين الصهاينة والأمريكان عيش وملح ونسب؛ فان لم تفلح الجهود التفاوضية الجبارة - أو "معركة" التفاوض كما قال "نبيل بن عمرو" - في استعادة الحقوق فلعل أبناء هذا النسب المبارك يستعيدون شيئا من أخوالهم ولو "بالمخاجلة"...
وربما حينها سيجد المعلق الفتحوي المنتشي شيئاً ليصنعه أكثر من مناكفةِ حماس من خلف الكاميرا؛ فيخرج ويرينا وجهه أمام الشاشة ويغني ويرقص ويدبك لعريس "الزين" والحارس الأمين على قارعة الطريق وخارطة الخيانة!
التوقيع :
وللسَّفُّودِ نارٌ لو تلَقَّتْ * * * بجاحِمِها حَديدًا ظُنَّ شَحْما
ويَشْوي الصَّخرَ يترُكُه رَمادًا * * * فكيفَ وقد رميتُكَ فيه لَحْما؟!